كي لا تكون وقفة أخيرة.!
صفحة 1 من اصل 1
كي لا تكون وقفة أخيرة.!
كي لا تكون وقفة أخيرة.!
قراءة في مجموعة قصصية لحسين راشد
[img]http://misralhura.files.wordpress.com/2008/07/satellite.jpg?w=222&h=134]
عدنان كنفاني
لا شك إنها مسؤولية أدبية أن أقوم بتقديم مجموعة قصصية لأديب يصدر مجموعته الأولى، وينتظر تقديماً محايداً، يسعى للإفادة منه سلباً كان أم إيجاباً، ويشجعه في الوقت نفسه على التقدم أكثر فأكثر، فالكتابة بذاتها فن يستطيع أن يرتقي بصاحبه قدماً، من يمتلك الموهبة أولاً، وهي منحة الله سبحانه إلى بعض خلقه، ثم يصقلها وينميها بالدراسة ومتابعة الحركة الأدبية والقراءة والإفادة من آراء الآخرين نقاداً ومتلقين، وقبل ذلك كلّه التواضع والبعد عن الزهوّ والغرور.
الإبداع فضاء واسع شاسع، لم ولن يصل أحد إلى سقفه أو منتهاه، لأنه فعل متطوّر ويسعى “بفعل الفطرة” إلى الحداثة والبحث والابتداع، فكما يقول النقاد “تكرار الإبداع ليس إبداعاً”، “ونقل الواقع كما هو حرفياً ليس إبداعاً” وعلى الكاتب أن يحترم عقل المتلقي، وأن يترك له في النص الإبداعي فسحة للمشاركة في خلق الحالة الإبداعية، والابتعاد عن دقّ المعلومة في رأس المتلقي، فهذا نوع من استغباء القارئ.
وقد قيل الكثير الكثير في مسألة الكتابة وأجناسها، وقيل الأكثر في أصول كتابة الجنس الأدبي النثري “القصة، أو الرواية، أو الخاطرة، أو النص”، وعلى قواعد قد يكون أهمها الحدث الحكائي، ثم المكان والزمان، ولكن وبفعل التطوّر الفطري الطبيعي، ومساعي البشر لمواكبة التطوّر في كل مناحي الحياة، وتصاعد الحركات الأدبية على مستوى العالم، وتلاقح الحضارات، كل ذلك أفرز ويفرز الحركة الحداثية التي لا تقف عن حدّ “وهي حراك طبيعي وفطري لم يتوقف ولن يتوقف” هذا الإفراز الذي نتحدث عنه أضاف جماليات أخرى للكتابة الإبداعية، في محاولات للخروج من رتابة “الكلاسيك”، كاللغة الشعرية، والصورة، والمفردات، واللعب في الزمن على مساحات الأمكنة، وهي مبتكرات لم تلغ الأساس في كتابة النصوص النثرية قصة ورواية، لكنها أضافت ما هو جميل.
وقد قلت وأقول بأن الحداثة تنبع وتنمو على الأصالة، ولا تلغيها، فالأصالة هي قيمة الانتماء إلى خصوصية المكان والثقافة والتراث والتاريخ، وهي “في واقعنا العربي والظروف الصعبة التي نعيشها بسبب كم من الهزائم والانكسارات وسطوة القوّة والعولمة”، مسؤولية واجبة ومفروضة على كل من يحمل فكراً أو قلماً أو ريشة أو إزميل نحت أو حنجرة صدّاحة أو أصابع مرهفة.
بين يدي مجموعة الأديب الفنان حسين راشد، وقد عرفته شخصية هادئة ورصينة وأليفة، ولمست فيه روحاً شفافة ورقيقة، فهو فنان تشكيلي، وصحفي، وناشط في أمور كثيرة، وهذه مجموعته القصصية الأولى (وقفة ربما تكون الأخيرة)..
ورغم أن العنوان يبدو مثقلاً بالسواد، والتشاؤم، إلا إنني وأنا أقلّب صفحات وقصص المجموعة واحدة إثر أخرى، لمست توجّهاً ينتمي بجدارة إلى أحاسيس الكاتب، ورؤيته الخاصّة للحياة من زاوية يراها تناسب وتتماهى مع أمنياته وطموحاته، وهذا أمر لا يحق لأحد أن يصادره، هذا التوجّه يبدو جديداً على منظومة الكتابة النثرية.
يبدو للوهلة الأولى أنه تائه في توجيه الخطاب وصنع الحدث، ويخرج لمخاطبة ومحاكاة الجماد والأشياء والحشرات والريشة والمرآة واللوحة، لكن ومن خلال إشارات خفيفة وكثير منها بين السطور يأخذك بسلاسة إلى أمكنة غريبة، قد يكون عاش أو سمع بها، لكنها تحمل من الغرابة ومن التخيّل “غير المعقول في كثير من المواقف”، الشيء الذي لا يبتعد بك عن روح القص، لكنه يضع دهشة وتساؤلاً تفرض عليك وأنت تقرأ، وتغوص في عالم حسين راشد الغرائبي المتلوّن والمدهش أن تسأل نفسك: ماذا يريد أن يقول.؟
في قصّة (عود الكبريت)، بعد أن تخرج من جمالية صورة افتتح بها القصة: “الذاكرة العتيقة، تنسج خيوطاً كشال من الصوف البني” يأخذك إلى عالمه الغرائبي: “عود الثقاب يحكّ نفسه في حكّاكة الكبريت، يشتعل، يلقي بنفسه في أحضان الزيت المسكوب على الأرض، تحترق الغرفة، يحاول أن يطفئ النار فتلتهم النيران ملابسه.. الطاولة تحترق، وكذلك الكرسي، يتلاشى خيط العنكبوت”. وفي زحمة هذه الأحداث المتلاحقة، والجمل الفعلية المتواترة، تأتيك خاتمة القصة على غير ما تتصور، وقد تصدمك، وتضعك أمام مفارقة فيقول: “يعود إلى وعيه بمجرد أن شعر بلسعة نار سيجارته تلدغ إصبعه، ليجد ملابسه سالمة، والغرفة لا زالت بأمان. ينظر إلى عود الكبريت الذي ظل في مكانه لم يتحرك.!”.
من الواضح أن الكاتب شغوف بإيقاع المفارقات الصادمة في كثير من خواتيم قصصه، وأعتقد أن السبب الرئيس في ذلك هو الآتي من شخصية الكاتب نفسه، فالكاتب ومن خلال مقولة اتفق عليها جميع النقاد، لا يستطيع أن ينفصل عن نصّه، ولا بد أن تلامس شيئاً منه يسكن بين حروف وسطور وأحداث وشخصيات قصصه، وهذا يفسر تقصّد ترك الكاتب لنهايات القصص مفتوحة.
يقول في قصّة (حلم بلا روح): “تتسابق أنامله كي تكتب حلماً جديداً بعد أن أغلق لتوّه حلما لم يكتمل بعد.” وعندما تصل إلى نهاية القصة، تفاجئك جملة سهلة بسيطة: “أشار إلى كلمة حلم.. وانطفأت الشاشة.!”.
وفي قصة (رحل دون أن يدري) يقول: “صرخت امرأة، شعر أنه يريد أن يقوم ليسكتها لكنه لم يقدر، أدرك أنه في عالم آخر.!”.
ويقول في قصّة (مشوار): مرّ شيخ كهل وابتسم لي قائلاً: أنه الوهم، فمن مروا من هنا لم يكونوا كما كنت، ولن تصبح كما أصبحوا.. فاطمئن.!”
ويقول في قصّة (رحلة بلا عنوان): الثقب الذي اتسع، تسرّب من خلاله هواء باللون الرمادي، اعتقد في أول الأمر أنه حريق، لكنه سرعان ما عرف أنه……!”
وكذلك في قصّة (ورقة من عمر امرأة) تلامس تلك المفارقات الصادمة وخاصة في نهاية القصّة.
ولا بد لي أن أنوّه بأنني وقفت طويلاً أمام صور جميلة جاءت محمولة على لغة شعرية في بعض مقاطع كما في قصّة (لحظة صدق): يقول: “محاليل الصمت الملقاة على المنضدة تفوح منها رائحة الذكرى..”.
ومن الجدير بالذكر أن الكاتب ومن خلال مجموعة القصص هذه، بغض النظر عن أحداثها وحركة السير فيها يؤكد على التزامه الأخلاقي والاجتماعي، ومن خلال معاناة خاصّة تبدو جارحة أحياناً، لكنها تفرض عليه معايشة الأحداث الوطنية التي تمس انتماءه الوطني والأخلاقي، ويبدو ذلك واضحاً في قصّة (لن أرتدي الأبيض): “أنا ومن حولي ليس لنا ما ندافع به عن أنفسنا، هل هذه هي الحرب.؟ طائرات بمواجهة أيادي.!” ويخرج من السؤال المفارق الغريب إلى فعل مقاوم فيقول: “نزل على الأرض والتقط حجارة صغيرة، قال: لو جاؤوا مرة أخرى سأحاربهم بهذه، فقد يئست” وفي إشارة واضحة إلى ثبات الموقف يقول مجيباً عن كثير من الأسئلة المرتبكة: “لا.. لن ألبس هذه الثياب مرة أخرى، بل سأذهب لأرتدي المموّه، هذا هو مكاني الطبيعي، سألقنهم درساً، كيف سمحوا لأنفسهم أن يجعلوني هكذا أكره ملابسي البيضاء.”
ويبدو واضحاً تأثر الكاتب بالفن التشكيلي وهو فنان في هذا المجال، وهذا ينعكس مرآة حتى في كتاباته النثرية أو الخواطر أو النصوص التي يكتبها، ولا يستطيع الخروج من إطارها لأنها حياته والرئة التي يتنفس منها، ويضع على لسان أبطال قصصه ما يريد أن يقوله أو يشعر به هو:
ففي قصّة (لوحة عاهرة): يقول “سرت نحو حامل الرسم أحادث لوحاتي التي عاشت معي سنواتي بلا ملل، العين الحمراء تحدق بي، تدور حولي، تبحث عن اللقاء، تبحث عن شهوتها في العناق، ربما لم أكن أجيد تلك اللحظة في ذاك الحين، لكنني الآن أتوق شوقاً كي أثبت أن ما منعني ليس العجز عن الفعل، بل لأنني أحترم جميع لوحاتي، ولو كانت لوحةً لعاهرة..”.
وفي وقفة مع “وقفة قد تكون الأخيرة”، يبدو واضحاً محاكاته للأشياء والفراشات، وهي صور أيضاً جميلة وفيها لمسات شعرية يقول: “تخايله فراشة شفافة، يحاول أن يأخذها لمرسمه فيعطيها ألوانه الخاصة التي يحبها.
تأبى الفراشة أن ترافقه وتقترب من مدفأته بزاوية الحجرة، فتصبح بلون الرماد، وهو لا يحب هذا اللون، ولا يحب أن يحرك الأشياء كيفما يشاء، بل دائما ينتظر أن تلوح له الأشياء بأن يحركها كي لا يشعر أنه يغتصب إرادتها.
يطل على ابتسامات الحزن المحيطة بحديقة الموتى التي تحوط منزله.
يتأمل سير السكان الأصليين للمكان، إنهم يهيمون، ولا يترنحون، ويزدادون ميلاً بلا هوادة.
تتوغل الخطوات داخله، تسكن رئتيه، فيرتجف، يشعر بأنه أصبح لديه شيء ينبض، يعود لينظر إلى الفراشة الشهيدة، ويسألها: لماذا؟.. لماذا؟.
لم تجب عليه، فهي لم تعد بالشفافية التي كانت عليها، فقد تغيرت وأصبحت رمادية كسابقاتها.”
إنها تلك النظرة الرمادية التي ما فارقت الكثير من قصص حسين راشد، ولا أعرف لماذا وهو شاب مقبل على الحياة، ثم تملؤه هذه القاتمات التشاؤمية.
إذا عرفنا كيف نعيش الحياة، بالروح والسموّ، وتأصيل الرضى عن الذات، نستطيع أن نكتشف مواطن جمال كثيرة فيها تستحق منا أن نشعل شمعة فرح وأمل.
أتمنى على الفنان حسين راشد أن يواصل الكتابة ليثري نضوجه العام، ويأتينا بالجديد المتفائل.
قراءة في مجموعة قصصية لحسين راشد
[img]http://misralhura.files.wordpress.com/2008/07/satellite.jpg?w=222&h=134]
عدنان كنفاني
لا شك إنها مسؤولية أدبية أن أقوم بتقديم مجموعة قصصية لأديب يصدر مجموعته الأولى، وينتظر تقديماً محايداً، يسعى للإفادة منه سلباً كان أم إيجاباً، ويشجعه في الوقت نفسه على التقدم أكثر فأكثر، فالكتابة بذاتها فن يستطيع أن يرتقي بصاحبه قدماً، من يمتلك الموهبة أولاً، وهي منحة الله سبحانه إلى بعض خلقه، ثم يصقلها وينميها بالدراسة ومتابعة الحركة الأدبية والقراءة والإفادة من آراء الآخرين نقاداً ومتلقين، وقبل ذلك كلّه التواضع والبعد عن الزهوّ والغرور.
الإبداع فضاء واسع شاسع، لم ولن يصل أحد إلى سقفه أو منتهاه، لأنه فعل متطوّر ويسعى “بفعل الفطرة” إلى الحداثة والبحث والابتداع، فكما يقول النقاد “تكرار الإبداع ليس إبداعاً”، “ونقل الواقع كما هو حرفياً ليس إبداعاً” وعلى الكاتب أن يحترم عقل المتلقي، وأن يترك له في النص الإبداعي فسحة للمشاركة في خلق الحالة الإبداعية، والابتعاد عن دقّ المعلومة في رأس المتلقي، فهذا نوع من استغباء القارئ.
وقد قيل الكثير الكثير في مسألة الكتابة وأجناسها، وقيل الأكثر في أصول كتابة الجنس الأدبي النثري “القصة، أو الرواية، أو الخاطرة، أو النص”، وعلى قواعد قد يكون أهمها الحدث الحكائي، ثم المكان والزمان، ولكن وبفعل التطوّر الفطري الطبيعي، ومساعي البشر لمواكبة التطوّر في كل مناحي الحياة، وتصاعد الحركات الأدبية على مستوى العالم، وتلاقح الحضارات، كل ذلك أفرز ويفرز الحركة الحداثية التي لا تقف عن حدّ “وهي حراك طبيعي وفطري لم يتوقف ولن يتوقف” هذا الإفراز الذي نتحدث عنه أضاف جماليات أخرى للكتابة الإبداعية، في محاولات للخروج من رتابة “الكلاسيك”، كاللغة الشعرية، والصورة، والمفردات، واللعب في الزمن على مساحات الأمكنة، وهي مبتكرات لم تلغ الأساس في كتابة النصوص النثرية قصة ورواية، لكنها أضافت ما هو جميل.
وقد قلت وأقول بأن الحداثة تنبع وتنمو على الأصالة، ولا تلغيها، فالأصالة هي قيمة الانتماء إلى خصوصية المكان والثقافة والتراث والتاريخ، وهي “في واقعنا العربي والظروف الصعبة التي نعيشها بسبب كم من الهزائم والانكسارات وسطوة القوّة والعولمة”، مسؤولية واجبة ومفروضة على كل من يحمل فكراً أو قلماً أو ريشة أو إزميل نحت أو حنجرة صدّاحة أو أصابع مرهفة.
بين يدي مجموعة الأديب الفنان حسين راشد، وقد عرفته شخصية هادئة ورصينة وأليفة، ولمست فيه روحاً شفافة ورقيقة، فهو فنان تشكيلي، وصحفي، وناشط في أمور كثيرة، وهذه مجموعته القصصية الأولى (وقفة ربما تكون الأخيرة)..
ورغم أن العنوان يبدو مثقلاً بالسواد، والتشاؤم، إلا إنني وأنا أقلّب صفحات وقصص المجموعة واحدة إثر أخرى، لمست توجّهاً ينتمي بجدارة إلى أحاسيس الكاتب، ورؤيته الخاصّة للحياة من زاوية يراها تناسب وتتماهى مع أمنياته وطموحاته، وهذا أمر لا يحق لأحد أن يصادره، هذا التوجّه يبدو جديداً على منظومة الكتابة النثرية.
يبدو للوهلة الأولى أنه تائه في توجيه الخطاب وصنع الحدث، ويخرج لمخاطبة ومحاكاة الجماد والأشياء والحشرات والريشة والمرآة واللوحة، لكن ومن خلال إشارات خفيفة وكثير منها بين السطور يأخذك بسلاسة إلى أمكنة غريبة، قد يكون عاش أو سمع بها، لكنها تحمل من الغرابة ومن التخيّل “غير المعقول في كثير من المواقف”، الشيء الذي لا يبتعد بك عن روح القص، لكنه يضع دهشة وتساؤلاً تفرض عليك وأنت تقرأ، وتغوص في عالم حسين راشد الغرائبي المتلوّن والمدهش أن تسأل نفسك: ماذا يريد أن يقول.؟
في قصّة (عود الكبريت)، بعد أن تخرج من جمالية صورة افتتح بها القصة: “الذاكرة العتيقة، تنسج خيوطاً كشال من الصوف البني” يأخذك إلى عالمه الغرائبي: “عود الثقاب يحكّ نفسه في حكّاكة الكبريت، يشتعل، يلقي بنفسه في أحضان الزيت المسكوب على الأرض، تحترق الغرفة، يحاول أن يطفئ النار فتلتهم النيران ملابسه.. الطاولة تحترق، وكذلك الكرسي، يتلاشى خيط العنكبوت”. وفي زحمة هذه الأحداث المتلاحقة، والجمل الفعلية المتواترة، تأتيك خاتمة القصة على غير ما تتصور، وقد تصدمك، وتضعك أمام مفارقة فيقول: “يعود إلى وعيه بمجرد أن شعر بلسعة نار سيجارته تلدغ إصبعه، ليجد ملابسه سالمة، والغرفة لا زالت بأمان. ينظر إلى عود الكبريت الذي ظل في مكانه لم يتحرك.!”.
من الواضح أن الكاتب شغوف بإيقاع المفارقات الصادمة في كثير من خواتيم قصصه، وأعتقد أن السبب الرئيس في ذلك هو الآتي من شخصية الكاتب نفسه، فالكاتب ومن خلال مقولة اتفق عليها جميع النقاد، لا يستطيع أن ينفصل عن نصّه، ولا بد أن تلامس شيئاً منه يسكن بين حروف وسطور وأحداث وشخصيات قصصه، وهذا يفسر تقصّد ترك الكاتب لنهايات القصص مفتوحة.
يقول في قصّة (حلم بلا روح): “تتسابق أنامله كي تكتب حلماً جديداً بعد أن أغلق لتوّه حلما لم يكتمل بعد.” وعندما تصل إلى نهاية القصة، تفاجئك جملة سهلة بسيطة: “أشار إلى كلمة حلم.. وانطفأت الشاشة.!”.
وفي قصة (رحل دون أن يدري) يقول: “صرخت امرأة، شعر أنه يريد أن يقوم ليسكتها لكنه لم يقدر، أدرك أنه في عالم آخر.!”.
ويقول في قصّة (مشوار): مرّ شيخ كهل وابتسم لي قائلاً: أنه الوهم، فمن مروا من هنا لم يكونوا كما كنت، ولن تصبح كما أصبحوا.. فاطمئن.!”
ويقول في قصّة (رحلة بلا عنوان): الثقب الذي اتسع، تسرّب من خلاله هواء باللون الرمادي، اعتقد في أول الأمر أنه حريق، لكنه سرعان ما عرف أنه……!”
وكذلك في قصّة (ورقة من عمر امرأة) تلامس تلك المفارقات الصادمة وخاصة في نهاية القصّة.
ولا بد لي أن أنوّه بأنني وقفت طويلاً أمام صور جميلة جاءت محمولة على لغة شعرية في بعض مقاطع كما في قصّة (لحظة صدق): يقول: “محاليل الصمت الملقاة على المنضدة تفوح منها رائحة الذكرى..”.
ومن الجدير بالذكر أن الكاتب ومن خلال مجموعة القصص هذه، بغض النظر عن أحداثها وحركة السير فيها يؤكد على التزامه الأخلاقي والاجتماعي، ومن خلال معاناة خاصّة تبدو جارحة أحياناً، لكنها تفرض عليه معايشة الأحداث الوطنية التي تمس انتماءه الوطني والأخلاقي، ويبدو ذلك واضحاً في قصّة (لن أرتدي الأبيض): “أنا ومن حولي ليس لنا ما ندافع به عن أنفسنا، هل هذه هي الحرب.؟ طائرات بمواجهة أيادي.!” ويخرج من السؤال المفارق الغريب إلى فعل مقاوم فيقول: “نزل على الأرض والتقط حجارة صغيرة، قال: لو جاؤوا مرة أخرى سأحاربهم بهذه، فقد يئست” وفي إشارة واضحة إلى ثبات الموقف يقول مجيباً عن كثير من الأسئلة المرتبكة: “لا.. لن ألبس هذه الثياب مرة أخرى، بل سأذهب لأرتدي المموّه، هذا هو مكاني الطبيعي، سألقنهم درساً، كيف سمحوا لأنفسهم أن يجعلوني هكذا أكره ملابسي البيضاء.”
ويبدو واضحاً تأثر الكاتب بالفن التشكيلي وهو فنان في هذا المجال، وهذا ينعكس مرآة حتى في كتاباته النثرية أو الخواطر أو النصوص التي يكتبها، ولا يستطيع الخروج من إطارها لأنها حياته والرئة التي يتنفس منها، ويضع على لسان أبطال قصصه ما يريد أن يقوله أو يشعر به هو:
ففي قصّة (لوحة عاهرة): يقول “سرت نحو حامل الرسم أحادث لوحاتي التي عاشت معي سنواتي بلا ملل، العين الحمراء تحدق بي، تدور حولي، تبحث عن اللقاء، تبحث عن شهوتها في العناق، ربما لم أكن أجيد تلك اللحظة في ذاك الحين، لكنني الآن أتوق شوقاً كي أثبت أن ما منعني ليس العجز عن الفعل، بل لأنني أحترم جميع لوحاتي، ولو كانت لوحةً لعاهرة..”.
وفي وقفة مع “وقفة قد تكون الأخيرة”، يبدو واضحاً محاكاته للأشياء والفراشات، وهي صور أيضاً جميلة وفيها لمسات شعرية يقول: “تخايله فراشة شفافة، يحاول أن يأخذها لمرسمه فيعطيها ألوانه الخاصة التي يحبها.
تأبى الفراشة أن ترافقه وتقترب من مدفأته بزاوية الحجرة، فتصبح بلون الرماد، وهو لا يحب هذا اللون، ولا يحب أن يحرك الأشياء كيفما يشاء، بل دائما ينتظر أن تلوح له الأشياء بأن يحركها كي لا يشعر أنه يغتصب إرادتها.
يطل على ابتسامات الحزن المحيطة بحديقة الموتى التي تحوط منزله.
يتأمل سير السكان الأصليين للمكان، إنهم يهيمون، ولا يترنحون، ويزدادون ميلاً بلا هوادة.
تتوغل الخطوات داخله، تسكن رئتيه، فيرتجف، يشعر بأنه أصبح لديه شيء ينبض، يعود لينظر إلى الفراشة الشهيدة، ويسألها: لماذا؟.. لماذا؟.
لم تجب عليه، فهي لم تعد بالشفافية التي كانت عليها، فقد تغيرت وأصبحت رمادية كسابقاتها.”
إنها تلك النظرة الرمادية التي ما فارقت الكثير من قصص حسين راشد، ولا أعرف لماذا وهو شاب مقبل على الحياة، ثم تملؤه هذه القاتمات التشاؤمية.
إذا عرفنا كيف نعيش الحياة، بالروح والسموّ، وتأصيل الرضى عن الذات، نستطيع أن نكتشف مواطن جمال كثيرة فيها تستحق منا أن نشعل شمعة فرح وأمل.
أتمنى على الفنان حسين راشد أن يواصل الكتابة ليثري نضوجه العام، ويأتينا بالجديد المتفائل.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى